المثالية والواقعية

العولمة بين المثالية والواقعية

  • العولمة بين المثالية والواقعية

اخرى قبل 5 سنة

العولمة بين المثالية والواقعية

د.سالم حسين سريه

لقد جرفت العولمة الثقافية الكثير من المفكرين بحيث ركزوا على جوانبها الإيجابية وسوقوا الى مفهوها المثالي الذي تطرحه امريكا عبر مفكريها ومؤلفاتهم لغرض جذب الأخرين اليها دون تردد .

فالعولمة في مفهومها المثالي بناء عالم واحد موحد لاقيمة ولامعنى للخصوصيات القومية ولا للحدود الجغرافية، وأساس هذا الوحدة العالمية توحيد المعايير الكونية لحقوق الإنسان ومحاربة المخدرات ومحاربة الإرهاب الذي تعولم ومحاربة التجارة بالبشر والقضاء على الديكتاتوريات الوطنية واعطاء المرأة حقوقها من خلال منظمات اقليمية ودولية والغاء عقوبة الإعدام في الدول من خلال تشريعات خاصة بذلك أي بكلمة واحدة تعزيز الروابط الانسانية بين الشعوب .، وتحرير العلاقات الدولية، والسياسية والاقتصادية من كل القيود، وتقريب الثقافات وتمازجها عبر كل وسائل الملتيميديا ، ونشر المعلومات والافكار بلا حدود عبر الثورة الرقمية ، وتشجيع عالمية الانتاج المتبادل حيث يمكن الإستفادة من اليد العاملة في الدول النامية والإستفادة من المواد الخام فيها بدل نقلها للدول المصنعه ، وانتشار التقدم التكنولوجي ، وعالمية الإعلام. ومن يفتح صفحة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الانترنت يلاحظ المثالية المفرطة لمبررات وجودهما . فكل منهما مجرد بنك تسليف احدهما قريب الأجل والأخر بعيد الأجل لإقراض الدول وتسليفها لغرض مساعدتها .وهذا الطرح المثالي يبدوا مغريا ومشوقا في ظاهره.وهذا المفهوم لا يمكن أن يتم إلا بين القوى المتكافئة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، بحيث لايستطيع طرف فرض التغير على الطرف الآخر، وبذلك يسير التغير في اتجاهين بدلا من اتجاه واحد. ولكن شتان بين المثالية والواقع.

أما العولمة ـ كما هي مطبقة في عالم الواقع ـ فهي عملية إلحاقية انتقائية استعبادية تجعل الدول النامية عربة في القطار الذي تقوده امريكا ومعها الدول السبع الصناعية الكبار في العالم .كما انها تقسم العالم إلى عالمين : عالم القوى الكبرى ذات المصالح المتبادلة، والمؤسسات العالمية ، والشركات الصناعية والتجارية والإعلامية العملاقة ، وعالم الدول النامية أو الضعيفة . والعالم الثاني عليه أن يقبل دور التابع للعالم الأول ويبقى مسلوب الإرادة، وحتى طاقاته التكنولوجية القليلة التي طورت بشق الأنفس يتم استنزافها والاستيلاء عليها بواسطة دول العالم الأول .

1- وبذلك فإن العولمة في مفهومها الاقتصادي تعني إقصاء المستضعفين نهائيا عن أي مشاركة في ميادين التنافس لانهم اصلا لا يمتلكون مقومات التنافس لا من حيث الرأسمال ولا من حيث امتلاكهم لتقنية الإنتاج فهم مستوردون ومستهلكون بالمقام الاول والأخير . ان اذرع العولمة الاقتصادية (البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية ) لا تقدم أي قرض لأي دولة الا بشروط مذلة ومجحفة عدا عن الفوائد وفوائد الفوائد المطلوب دفعها في توقيتات معينة .ومن هذه الشروط تحطيم القطاع العام في مؤسسات الدولة وفرض الخصخصة بحجة تخفيف العبئ عن الدولة وهكذا يتم تعرية نفوذ الدولة وسيطرتها على اقتصادها ولقمة عيش افرادها خطوة بخطوة . وهذا ما جعل كل الدول العربية الغير نفطية ترزح تحت البسطار الامبريالي وتفقد سيادتها .ومؤخرا استدان العراق من صندوق النقد 500 مليون دولار وكان شرط الصندوق ايقاف التعيينات في دوائر الدولة لمدة خمس سنين .بينما كان عراق صدام حسين خالى من الخصخصة لانه كان يمتلك المال الذي يغنيه عن صندوق النقد وبالتالي كان سيد نفسه وهكذا استغنى مهاتير محمد في ماليزيا عن قروض صندوق النقد ونهض ببلاده .كما ان العولمة الاقتصاديه تفسح المجال للشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات لكي تفرض قوانينها وأسعارها وشروطها على أصحاب الكيانات الاقتصادية الهشة من الفقراء والمطحونين ، دون أي اعتبار لإنسانية الإنسان . لانها تفرض دخول المليارات وخروجها بحرية وعندما تسحب ملياراتها بين ليلة وضحاها ينهار فورا اقتصاديات تلك الدول كما حدث مع دول جنوب شرق اسيا والنتيجة معروفة سلفا، وهي أن يبقى الضعفاء ضعفاء وفريسة لجشع الحيتان الكبار ، واقفين في انتظار الموت أو الانتحار..

2- والعولمة في مفهومها الأخلاقي تعني تعزيز الأنانية الفردية لان الفرد سيعتبر نفسه خارج الإرتباط الوطني والقومي ومرتبط بالفضاء الإنساني الاوسع وإطلاق العنان له بلا قيود لنوازع الجنس من خلال الافلام الأباحية وإدمان المجتمعات على مشاهدتها وتقليدها تماما كإدمان المخدرات حيث تدر هذه الصناعه مليارات الدولارات على اصحابها من جهة وتجعل الافراد غائبه عن همومها المتنوعه.كما يتم اشاعة الحس الغليظ، والتحلل الأخلاقي، وتدمير القيم الإنسانية الباقية، وتدمير الأسرة، وإشاعة الشذوذ من خلال التشريعات التي تسمح بزواج المثليين واعتبار ذلك سمة حضارية يجب ان نقتدي بها .وعندما تنظر للصورة التذكارية لزوجات رؤساء الدول السبع الكبار تصاب بالدهشة لان بينهم رجل .بالاضافة لإشاعة الإلحاد تحت مسميات علمية لرؤية الأديان وخاصة الطعن بالدين الإسلامي وقيمه السمحاء .فصار المشاهد العربي يرى بكل وقاحة المناظرات التلفزيونيه في القنوات الفضائية المصرية واللبنانية وغيرها حول الإلحاد والعلاقات المثلية. والأنكى من ذلك ان تشاهد على احدى القنوات اللبنانية الفضائية رجال ونساء يشاركون في بث النكات الجنسية الفاضحة بكل صراحة وصفاقة .

3- والعولمة في مفهومها السياسي تعني هيمنة المعولم ( بكسر اللام)؛ فهو صاحب السيادة، والقول الفصل، لا راد لما يريد، ولا صوت يعلو على صوته، وهو مثل راعي القطيع ؛ عصاه جاهزة لأي شاة شاردة. فجورج بوش الابن رفع شعار من ليس معنا فهو ضدنا في مجلس الأمن وحرض اكثر من 30 دولة للعدوان معه على العراق مستخدما العصا والجزرة . وقبلها استخدم مجلس الامن ليفرض قوانين الحصار على العراق لمدة 12 عاما .وها هو ترامب يسير على نفس النهج في سن العقوبات على الدول او في محاصرة منظمة التحرير الفلسطينية اذا لم تنحني لصفقة القرن .

4- والعولمة في مفهومها التكنولوجي تعني استئثار المعولمين بالتكنولوجيا الفائقة، وبالأدوات التكنولجية المتطورة وبالقدرة على استخدامها لتحقيق مصالحهم ، وفرض شراء الأدوات التكنولوجية دون أسرارها على المعولَمين وفرض استخدامها في الأغراض التي تحقق مصالح الحيتان الكبيرة فقط.وفي هذا الجانب لابد من الإشارة الى الإنترنت وما تفرع عنها من تطبيقات ودورها في التجسس على الافراد والدول بحيث ان كل فرد يستخدم الكمبيوترفي كل الكرة الارضية له ملفه الخاص المحفوظ في بنك المعلومات عند جوجل وياهو وغيرهم من ادوات التصفح .حيث يؤرشف هذا المتصفح كل تحركات الفرد والمواقع التي دخلها وتعليقاته ومكالماته بالتفصيل .فاذا مسحتها من طرفك فانها لا تمسح من طرفهم وانما تبقى محفوظة لحين الطلب .لهذا اسس الموساد وحدة الكترونية خاصة لمتابعة الافراد ومراقبتهم مما حدى برئيس الموساد للقول انه قل اعتمادنا كثيرا على الجواسيس الأفراد واصبحت المعلومات تتوافر لدينا بغزارة عن طريق الإنترنت وهكذا الحال في كل دوائر الإستخبارات في العالم . والسؤال ما العمل ؟

لا شك ان العولمة تسونامي جارف بابعاده الإقتصادية والثقافية والسياسية والعلمية والإجتماعية .تخترق اقتصاديات الدول وحدودها الجغرافية رغما عنها وتتحكم بسياسات الدول المتخلفة رغم ارادتها وتتسلل الى عقول ونفوس الجماهير وهي راضية .فإذا رفضناها بالمطلق نصبح خارج العصر ومتقوقعين على انفسنا ومتخلفين.واذا قبلناها بالمطلق فقدنا جذورنا الوطنية والقومية ومسخت قيمنا وتقاليدنا .لذا قال غاندي :انا مستعد لأفتح نوافذ بيتي ليطرد الهواء النقي ما بقي فيها من هواء فاسد ولكن من الغباء ان اجعل الرياح تقتلع بيتي من جذوره الأساسية .اذا مطلوب التطور والاعتماد على الذات مع المحافظة على الجذور والقيم .وهي مهمة شاقة على كل الصعد في ظل التجزئة القومية والتخلف .والله المستعان.

التعليقات على خبر: العولمة بين المثالية والواقعية

حمل التطبيق الأن